فتنة التكفير اليوم أشد من فتنة خلق القرآن بالأمس
الحمدُ لله حقَّ حمدِه، والصّلاةُ والسّلامُ على نبيّه وعبدِه، وعلى آلهِ وصحبِه ووفدِه وجندِه.
أمّا بعد :
فإنَّ العلومَ الشرعَّيةَ منارُها رفيع، وعزُّها مَنيع؛ يُحاولها مَن ليس أهلاً لها، ويلجُ فيها مَن لا يُعَدُّ مِن أهلها...
هذا في سائر ( العلوم الشرعية )؛ فكيف الشأنُ بأعلاها، وأغلاها، وأَوْلاها ـ وهو علم الاعتقاد ـ؟!
فالمصيرُ ـ إذَنْ ـ أهمُّ وأعظمُ.
فكيف الأمرُ -والحالةُ هذه- في أجَلِّ ذلك كُلِّه، وهو ( مسائلُ الإيمان ) -منه-؟!
فليس من شَكٍّ أنَّ ذلك سيكون الذُّروة والأساس...
ومٍن اللَّفتاتِ العلميّة الغاليات : أنَّ الأمامَ البخاري ـ رحمه الله ـ قد افتتح «صحيحه» بكتاب ( بدء الوحي )، ثمّ أتْبَعَهُ بكتاب (الإيمان )، ثم ثلّث بكتاب (العلم )؛ وكأنَّهُ ـ رحمةُ اللهِ عَلَيه ـ يُريدُ أن يُبيِّنَ أنّ أساسَ هذا الدّين قائِمٌ على (الوحي )، وأنَّ لُبَّ الوَحْيِ ومَقصُودَهُ (الإيمَان )، وأنَّ الإيمَان ـ هكذا ـ لا يُبْنَى إلاّ عَلى ( العِلم )...
وَمِن أعجَبِ ما ابتُلِينَا به ـ في السَّنَواتِ العِجافِ الأخيرة! ـ: ما خَرَجَ علينا به أناسٌ مِن هُنا أو ( هُنالِك ): يتَّهمون بعضَ جِلَّةِ مَشايِخِنا الأكابِر بالعَقائِدِ المُضِلَّة، والمَناهِجِ المُخْتَلَّة، والآراءِ الفَاسِدَةِ المُعْتَلَّة...
لكنَّ هَذا الاتِّهامَ ـ في بعضِ جَوانِبِهِ! ـ لم يكُن صريحاً الصَّراحَةَ الظّاهِرةَ التَّي تَكْشِفُ مَخْبُوءَ صاحِبِهَا، وَتُبَيِّنُ خَطَأ مَقولَتِهِ مِن صائِبِهَا؛ فَتَوَلَّى المُتَّهِمُونَ ـ أنفسُهُم ـ توجيهَ السِّهام إلى جوانِبَ أُخَرَ ذاتِ قِيمَةٍ واعتِبَار.. مُوَجِّهِينَ سِهامَهُم ـ بِقَباحَةٍ ـ نحوَ تَلامِيذِ أولئِكَ المَشَايِخ، وأصحابِهِم، وأبنائِهِم ـ المُدافِعينَ عَنْهُم، الذَّابِّينَ عن كُلِّ ما يُوَجَّهُ إلَيْهِم ـ؛ حتّى إذا تَمَّ إسقاطُهُم، أو ( إسكاتُهُم ): آنَ وَقْتُ الصَّراحة ـ وَبِكُلِّ راحَة ـ!!
وَأنّى لِهَذا ( المُخَطّط ) أن يَمُرّ؟! وربُّ العالَمِين يقولُ في كِتابِهِ المُبين: { إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَاد }، ويَقُولُ ـ سُبحانَه ـ: { إنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا }.
فَكَيْفَ؛ وَهؤُلاءِ الَّذِينَ نُدافِعُ عنهُم ـ واجِباً لازماً في أعناقِنا ـ هُم صفوةُ الأُمَّة، وخِيرَةُ الأئِمَّة؛ مِمَّن أَفْنَوْا أعمارَهُم الميمُونَةَ في نَشْرِ العقيدَةِ الصَّحِيحَةِ، والتَّوحيدِ الحقّ، والسنَّةِ الرَّشيدَة، والعُلُوم المُبارَكة؟!!
نعم؛ صَدَرَتْ فتاوى علمِيَّةٌ مِن جِهاتٍ ذاتِ قَدْرٍ وَقِيمَةٍ ـ لَها اعتِبارُها وَمَكانَتُها ـ في بَعْضِ الأعيانِ أوِ المؤلَّفات: فهذه الفتاوى ـ مع التقدير لأصحابها ـ تُوزَنُ في مِيزانِ الحُجَّة، وَتُوضَعُ عَلى مِنضدةِ التّحقيق؛ فاللهُ ـ تعالى- يقول: { قُل هَاتُوا بُرْهَانَكُم إنْ كُنْتُمْ صَادِقِين }(1).. فالثّباتُ لِلدَّلِيل، لا مَحْضُ الأقاويل...
فالمُرادُ بِما نَقُولُهُ -هُنا- ليسَ أولاءِ المشايخَ الأعيان- الَّذين لا تزالُ لهُم في نفوسِنا مكانَةٌ علِيَّة؛ لِمَا ينصُرونَ بِه التّوحِيدَ والسُّنَّة ـ على ما قَد نؤاخِذُ بعضَهُم عليهِ مِن مَواقِفَ تُعْوِزُهَا البَيِّنَةُ الشَّرعِيَّة، والحُجَّةُ المَرعِيَّة ـ؛ وإنَّمَا المُرادُ: ( أولئك ) المُتهافِتُون، المُتوافِدُون، المُتَقاطِرُون، المُسارِعُونَ، المُتَسَرِّعُون: الَّذِينَ تَلَقَّفُوا هذِهِ التُّهَمَ ( الجاهِزَة )، فَطارُوا بِها، وَطَيَّرُوها، وَفَرِحُوا بها فَرَحَ الرَّضِيع -بَعْدَ تَجْويع!-، وَجَعَلُوا ذلِكَ كُلَّهُ مادَّةَ كِتَاباتٍ مُتَلَوِّنَةٍ: لها أوَّل، وقد لا يكونُ لها آخِر! فما أَن ننتَهِي من مُطالَعةِ تَسْوِيدٍ، حَتَّى نُفْجَعَ بِتَسْوِيدٍ آخَرَ، وَما أن نفرُغَ مِنه إذا بِنا أمامَ ثالِث.. وهكذا ـ كتَكاثُرِ ظِباءِ خِراش! ـ؛ مِن مثلِ ذاك الفتى الجزائريّ ( الدّنمركيّ! ) ـ الظّلُوم ـ الَّذي سَوَّدَ ـ بِصَفاقَتِهِ، وَصَفَقاتِه! ـ مِئاتِ الصَّفْحَاتِ الدَّالَةِ عَلى جَهْلِه، الكاشفةِ عن ضَحالَةِ علمِه، المُبِينَةِ ضآلَةَ عقلِه! والَّذي فَرِحَ بِتَسْوِيدِه، و( قرّظه ) له: اثنان ـ مِن طينتِه ـ ظالِمان، أمدّاهُ ( بِمَدَدِهِمَا )، وأعطياهُ مِن ( فَيْضِهِما )!!!
فَلَئِن لَمْ نُقِمْ لَهُما ـ هُما- وزناً، لِمعرفِتنا بِحقيقتِهِما، وكشفِنا لِما وَراءَ فِعالِهِما! ـ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ـ؛ فَهَلْ نُقِيمُ وَزْناً لِذلك الكُوَيْتِب الجَهُول المَجْهُول، الّذي يكتُب في مسائِل ( الإيمان ) مُنْطَلِقاً (!) مِن ( القَرار! ) في بِلادِ الشِّرْكِ والكُفْرَان؟!
{ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَان }(2)...
{مَا لَكُم كَيْفَ تَحْكُمُون}؟! فماذا أنتُم ـ بِرَبِّكُم ـ لِرَبِّكُم ـ قائِلُون؟!!
وَيْكَأَنِّي أرى ـ وَقد لا أصيبُ الحَقّ! ـ : أنّ ( فِتنةَ التّكْفِيرِ ) ـ اليَوْمَ ـ تكادُ تكونُ أشدَّ مِن ( فتنةِ خلقِ القُرآن ) ـ بالأمس ـ، والَّتي وَقَفَ لها ـ سَدًّا مَنِيعاً ـ الإمامُ المُبَجَّلُ أحمدُ بنُ حَنبَل ـ الثَّابِتُ في الفِتْنَة، والصَّابِرُ في المِحْنَة ـ رحمه الله ـ.
وَلَكِنْ؛ مَن لِهذهِ الفِتْنَةِ ـ اليومَ ـ؟!
فالحقُّ أحقُّ بالاتِّبَاع، ولو رُمِيَ أهلُهُ ـ بهْتاً ـ بالابتِدَاع…
فليس ذَيّاك الرّامي بأولَ مَن رَمى! وليس هذا المرمِيُّ آخِرَ من رُمِيَ!!
... { وما توفيقي إلاَّ بِالله عليه توكّلتُ وإليه أُنيب }.
وكتب
علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد
الحلبي الأثريّ
بعد صلاة فجر اليوم الثّاني من
شهر الله المحرّم /